يُعد المسرح الروماني في الإسكندرية أحد أبرز وأهم الآثار الرومانية التي لا تزال تشهد على عراقة التاريخ العريق الذي امتزجت فيه الحضارات المتعددة، ليثبت مكانته كرمز حضاري فريد بين معالم المدينة العريقة. يقع هذا الأثر بوسط منطقة كوم الدكة، وقد أُنشئ في بداية القرن الرابع الميلادي، حيث استمر استخدامه حتى منتصف القرن السابع، ليشهد عبر العصور المختلفة مراحل رومانية وبيزنطية وإسلامية، استُخدم خلالها لأغراض متنوعة تارة كمسرح عرض، وتارة كقاعة محاضرات واحتفالات.
موقع المسرح الروماني - الإسكندرية
يقع المسرح الروماني ضمن موقع أثري هام بمدينة الإسكندرية في منطقة كوم الدكة، وهو يشكل جزءاً من سجل التراث الأثري والتاريخي للمدينة. تم اكتشاف هذا المبنى بصورة غير متوقعة في عام 1960 أثناء أعمال الحفر التي قامت بها البعثة الأثرية البولندية، التي كانت تبحث عن مقبرة الإسكندر الأكبر. استمر التنقيب حوالي ثلاثين عاماً، حتى تم الكشف عن جميع مكونات المسرح ومرافقه المحيطة.
التصميم المعماري للمسرح الروماني
يتميز المسرح بتصميمه الفريد على شكل "حدوة حصان" أو حرف U، وهو شكل يختلف قليلاً عن التصميم التقليدي للمسرح الكلاسيكي الذي يكون نصف دائري أو "C"، ومن هنا جاء الجدل حول كونه مسرحاً فعلياً أو مجرد مدرج متعدد الأغراض. يتكون المبنى من حوالي 13 صفاً من المدرجات الرخامية، كلها مرقمة بحروف يونانية وأرقام، لتسهيل تنظيم الجلوس على مرتادي هذا المكان قبل قرون. الصفوف السفلى تتكون من حجر الجرانيت الوردي المميز، وهو أساس لاستخدامه في باقي المدرجات.
في أعلى المدرجات توجد خمسة مقصورات كانت مغطاة بقباب ترتكز على أعمدة جميلة، بحيث كانت توفر الحماية من الشمس ومطر السقوط، كما تم تحسين الصوت داخل المسرح من خلال التصميم الهندسي الدقيق. للأسف، هذه القباب تضررت جراء الزلزال الكبير الذي ضرب الإسكندرية في القرن السادس الميلادي، ولم يتبق منها سوى مقصورتين.
تم بناء المسرح محاطاً بجدار حجري سميك يربط بين طبقتين من الجدران بواسطة أقواس وأقبية، مما وفر استقراراً هندسياً فعالاً للبناء، كما صنع المدخل الغربي من موزاييك مزخرف برسومات هندسية جميلة.
تاريخ المسرح الروماني
خلال ما يقارب من ثلاثة قرون، شهد المسرح استخدامات متنوعة ومختلفة عبر العصور الرومانية والبيزنطية والإسلامية، كان المكان يُستخدم في البداية كمسرح للعرض الفني والاحتفالات الرسمية والعروض الثقافية والتجمعات الشعبية، ثم تطور ليشمل القاعات المحاضراتية التي كان يجتمع فيها الطلاب والعلماء لدراسة الفلسفة والعلوم المختلفة، كما تحولت بعض أجزاءه إلى قاعات للعبادة واحتفالات دينية في العصر الإسلامي المبكر.
أهميته التاريخية والثقافية للمسرح الروماني بالإسكندرية
يمثل المسرح الروماني القديم بالإسكندرية رمزاً للحضارة الرومانية التي وصل صداها إلى مصر، ويعد أحد أهم الشواهد الحية على التنوع الثقافي الذي شهدته المدينة على مدى قرون. هو أيضاً مثال حي على التبادل المعماري بين الحضارات اليونانية والرومانية، حيث يحمل تأثيرات مشتركة واضحة في التصميم والزخرفة، علاوة على ذلك، يعكس المسرح الروح الحضارية والتفاعل الاجتماعي الذي كان سائداً في العصر الروماني، حيث كانت الفعاليات الترفيهية والثقافية جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية للمواطنين.
ترميم المسرح الروماني
بفضل جهود البعثة البولندية بالتعاون مع جامعة الإسكندرية، تم الكشف ببطء وبشكل متدرج عن هذا الكنز الأثري، واستخدمت تقنيات حديثة في التوثيق والبحث لفهم طبيعة المبنى ووظيفته بعمق. وأدت هذه الأعمال التنقيبية إلى اكتشاف قاعات تعليمية إضافية بجوار المدرجات عام 2004، مما أعاد النظر في وظيفة المبنى الذي ربما كان يستخدم أكثر من مجرد مسرح، وحالياً، تخضع المنطقة للصيانة الدورية والجهود المتواصلة للحفاظ على المعلم من عوامل التعرية الطبيعية والتلوث، حفاظاً على مكانته كأحد أهم مقومات السياحة الثقافية في الإسكندرية.
زيارة المسرح الروماني
يتاح للزوار الاستمتاع بجولة تاريخية في موقع المسرح، حيث يمكنهم التعرف على تفاصيل البناء ومشاهدة المدرجات الرخامية والنقوش والزخارف القديمة، كما يُنظم العديد من الجولات السياحية والتثقيفية التي تعطي رؤية شاملة عن الحياة الاجتماعية والثقافية في تلك الحقبة، تبدأ أوقات الزيارة عادةً من التاسعة صباحاً حتى الخامسة مساءً، مع إمكانية حضور فعاليات ثقافية في بعض المناسبات الخاصة التي تقام أحياناً في الموقع.
باختصار، يعد المسرح الروماني في الإسكندرية تحفة معمارية بارزة تحمل بين أركانه عبق تاريخ يمتد لقرون، وشهادة متحركة على تنوع الحضارات الإنسانية وثقافاتها الغنية. يقدم المسرح اليوم ليس فقط موقعاً سياحياً على خارطة المدينة، بل أيضاً مركزاً ثقافياً يشجع على إعادة إحياء التراث والتاريخ الإنساني.